A bulldozer works at a phosphate mines in Metlaoui, Tunisia April 6, 2012. Phosphate production at Tunisia's Metaloui partially resumed on Sunday and shipments restarted after protesters agreed to temporarily end their sit-in over job demands, the company said. Metaloui, which produces around 60 percent of Tunisia's phosphate output, has been closed by weeks of protests by local youths demanding employment and economic opportunities. Other plants in the south of the country have also been affected. Picture taken on April 6, 2012. REUTERS/Zoubeir Souissi/File

يمضي عبد الباسط أغلب وقته كل يوم في مقهى ببلدة المتلوي في جنوب العاصمة تونس دون عمل، لكنه رغم ذلك يحصل على راتب شهري منتظم من الدولة يقارب 280 دولارا

إنه واحد من بين نحو 12 ألف موظف تصرف لهم شركة فوسفات قفصة المملوكة للدولة رواتب دون أن يؤدوا أي عمل، بعد أن انتدبتهم للقيام بأعمال بيئية ضمن “شركة البيئة” التابعة لها في إطار خطط لامتصاص بطالة منطقة الحوض المنجمي الغنية بالفوسفات

و بعد أن كان عدد الموظفين في قطاع الفوسفات لا يتجاوز تسعة آلاف في عام 2010، قفز العدد حاليا إلى حوالي 30 ألف موظف

يقول عبد الباسط البالغ من العمر 45 عاما: أحصل على 850 دينارا (279.62 دولار) شهريا دون أن أقوم بأي عمل.. هذا يقلقني كثيرا.. انظروا للنفايات المتراكمة في المدينة جراء إنتاج الفوسفات و مع ذلك ليس هناك أي عمل لنا.. إنه فساد دولة

و منذ انتفاضة 2011 التي أنهت حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، انتدبت الشركة الآلاف من الموظفين للقيام بأعمال بيئية بعد موجة احتجاجات تطالب بالتشغيل و التنمية و تسببت في إيقاف إنتاج الفوسفات كلية لفترات وصلت إلى عدة شهور

تلك الموجة من الانتدابات العشوائية التي قال عنها وزير الطاقة و الصناعة التونسي سليم الفرياني إن هدفها “شراء السلم الاجتماعي في منطقة الحوض المنجمي” زادت من معاناة الشركة التي وقعت بين سندان الإضرابات و مطرقة الانتدابات العشوائية

و شركة فوسفات قفصة، المثقلة بآلاف الموظفين و تضم شركات فرعية من بينها شركة النقل و شركة البيئة، أصبحت أشبه بالبقرة الحلوب حتى تحولت من شركة تحقق فائضا ماليا كبيرا سنويا إلى عبء على الدولة مع ذهاب أغلب نفقاتها في كتلة الأجور

و تصرف الشركة ما يقارب 180 مليون دولار على كتلة أجور موظفيها سنويا، من بينها حوالي 70 مليون دولار مخصصة لعمال البيئة الذين لا يقومون بأي عمل، وفقا للأرقام الرسمية

و للمطالبة برفع أجورهم، أنشأ عمال شركة البيئة نقابة تدعو الشركة أيضا لتوفير وظائف حقيقية

و يقر وزير الطاقة التونسي بأن هؤلاء لا عمل لهم، قائلا: نحن نعي أنهم لا يقومون بأي عمل، و ندرس ماذا يمكن أن نفعل لكي نجد شغلا مهما يقوم به هؤلاء الآلاف

و تسببت الإضرابات و وقف إنتاج الفوسفات، و هي صناعة حيوية لتونس و مصدر رئيسي للعملة الأجنبية، في خسارة حوالي ثمانية مليارات دولار منذ انتفاضة 2011

و قال الفرياني في مقابلة مع رويترز: نخسر تقريبا مليار دولار سنويا منذ 2011 بسبب وقف الإنتاج، و هذا رقم مفزع، و كان يمكن أن يجنبنا حتى الاقتراض من صندوق النقد

و كشفت وثيقة للشركة حصلت عليها رويترز أن أيام التوقف الكلي عن العمل تصل أحيانا إلى 244 يوما في السنة في بعض مواقع الإنتاج الخمسة منذ 2011

و في مسعى للنأي بإنتاج الفوسفات عن الاحتجاجات المتكررة، كان الرئيس التونسي قد أمر في 2017 بأن يحرس الجيش مواقع إنتاج الفوسفات و النفط، معتبرا أن ضرب الإنتاج يمس أمن البلاد، لكن ذلك لم يحدث إلا نادرا خشية الدخول في مواجهات مع الأهالي على الأرجح

خلاف مع صندوق النقد الدولي

في عام 2016، اتفقت تونس على قرض بقيمة 2.6 مليار دولار مع صندوق النقد في 2016. و حتى الآن لم يتم صرف سوى أربع دفعات منه بقيمة 1.4 مليار دولار حتى الآن، لكن كل منها تأخر صرفه بسبب عدم وصول الإصلاحات إلى المستوى المطلوب في إطار البرنامج المتفق عليه

و جاءت رواتب القطاع العام وإصلاح الشركات العامة من بين نقاط الخلاف مع الصندوق

و يتوقع بعض المحللين مواجهة جديدة مع صندوق النقد بعدما زادت الحكومة الرواتب في الشركات العامة، بما فيها فوسفات قفصة و الخطوط التونسية و الشركة التونسية للكهرباء و الغاز

و قالت متحدثة باسم صندوق النقد إن الصندوق يجري “حوارا مستمرا مع السلطات بشأن السياسات” في المراجعة المقبلة للقرض، لكنها أحجمت عن ذكر موعد تلك المراجعة

و أضافت: يدعم صندوق النقد الدولي البرنامج الاقتصادي للسلطات التونسية لتقليص اختلالات الاقتصاد الكلي، بما في ذلك تعزيز التنافسية الخارجية و خفض التضخم و تقليص الديون و تحسين فرص نمو خلق الوظائف عبر إصلاحات هيكلية

و بعد أن كان إنتاج تونس من الفوسفات في 2010 في حدود 8.2 مليون طن، تراجع العام الماضي إلى ثلاثة ملايين طن فقط متأثرا بالاحتجاجات المتكررة. و في مقابل ذلك، نما إنتاج المغرب من حوالي 13 مليون طن في 2010 إلى حوالي 30 مليون طن العام الماضي

ذلك أن المغرب استفاد من مناخ اجتماعي مستقر و تطوير صناعته، و أصبح ينقل الفوسفات عبر الأنابيب، بينما تراجع إنتاج تونس و زاد من أوجاع اقتصادها العليل مع هبوط احتياطي العملة إلى ما يعادل 84 يوما فقط من الواردات

و يقول وزير الطاقة الفرياني إن تونس لم تعد على خريطة كبار المنتجين العالميين للفوسفات بعد أن كانت ضمن الخمسة الأوائل في العالم. و تضم قائمة الدول الخمس الأعلى إنتاجا الصين و الولايات المتحدة و المغرب و روسيا و الأردن

و كان الفوسفات يمثل نحو عشرة بالمئة من صادرات تونس قبل 2011، حين حل زيت الزيتون محله متصدرا قائمة الصادرات. و في 2018، انكمشت حصة الفوسفات من الصادرات لتصل إلى نحو أربعة بالمئة

حوكمة سيئة

على الرغم من ذلك، لم يكن التراجع الحاد في إنتاج الفوسفات هو العلة الوحيدة التي أنهكت شركة فوسفات قفصة التي كانت تملأ خزينة الدولة بمليارات الدولارات قبل أن تصبح شركة عاجزة

فالحوكمة السيئة أيضا أحد الأمراض التي أصابت قطاع الفوسفات المشغل لنحو 30 ألف موظف

ثمة شبهات فساد تتعلق بنقل الفوسفات وعمليات الشراء و الانتدابات العشوائية و المناظرات، و تصل إلى شراء بعض قطع الغيار غير الصالحة

و قال القاضي محمد علي البرهومي المتحدث باسم محكمة قفصة لرويترز إن القضاء فتح تحقيقا بشأن موظفين في الشركة بشبهة فساد

و أضاف: مراقب حسابات الشركة قدم تقريرا أظهر خروقات في صفقة قطع غيار شاحنات كمية منها غير صالحة للاستعمال بقيمة مليون دينار

و يقول وزير الطاقة الفرياني إن وزارته تتلقى باستمرار عرائض حول شبهات فساد، لكنه يؤكد أنه: ليس هناك إثبات لذلك، و مع ذلك نسعى لتعزيز الحوكمة داخل الشركة

و في شهر أكتوبر تشرين الأول الماضي، تم حبس كاتب الدولة للطاقة هاشم الحميدي بعد نحو شهر من إقالته من قبل رئيس الوزراء يوسف الشاهد بسبب شبهات فساد و رشوة

و قالت تقارير إن هناك شبهات حول طلبه رشوة من رجل أعمال عراقي مقابل تمكينه من الحصول على الفوسفات و الأسمدة بأسعار زهيدة. لكن الحميدي قال لرويترز قبل سجنه: إن هذه ادعاءات كيدية، و لي ثقة في القضاء

و لم يصدر حتى الآن أي حكم في القضية. و رفض وزير الطاقة التعليق على الموضوع قائلا: ننتظر أن يظهر القضاء الحقيقة في هذا الموضوع

و يشكل الفساد أحد أهم الملفات التي تواجهها الحكومة التونسية، و كانت مقاومة الفساد أحد شعارات انتفاضة 2011

شبهات فساد

في مقر شركة الفوسفات بالمتلوي التي زارها فريق رويترز، يغطي الغبار بعض القاطرات التي اقتنتها الشركة بملايين الدولارات منذ نحو أربع سنوات و لكنها لم تُستعمل حتى الآن

و قال موظفان بالشركة طلبا عدم ذكر اسميهما إن هذه الصفقة من ضمن الصفقات التي تكتنفها شبهات فساد

لكن رافع نصيب مدير الإنتاج بالشركة رفض هذه المزاعم، قائلا إن ذلك “كلام بلا معني”، حيث لم يجر استعمال تلك القاطرات بسبب مشاكل في السكك الحديدية الداخلية قرب مواقع إنتاج الحوض المنجمي

و أضاف أنه تمت ترسية مشروع إعادة تهيئة السكك الحديدية في مواقع الإنتاج على مستثمر تونسي، لكن الشركة اضطرت لسحب المشروع منه بسبب إخلالات في تطبيق شروط التعاقد

إن نقل الفوسفات يظل من أكبر الموضوعات المثيرة للجدل، فما أن تطأ قدماك مدن الحوض المنجمي التي زارتها رويترز، حتى يخبرك أغلب من تلتقيهم بأن بعض أصحاب النفوذ المالي و السياسي يسيطرون على نقل الفوسفات بالشاحنات

و قبل أشهر، نشر مدونون صورة لحائط من الأسمنت بني على السكة الحديدية في منطقة قفصة و صور أخرى لشاحنات تلقي التراب على السكة لمنع مرور عربات القطار التي تنقل الفوسفات

و نصف إنتاج الفوسفات ينقل عبر الشاحنات و ينقل النصف الآخر عبر القطارات، وفقا لما قاله وزير الطاقة لرويترز، مضيفا أن الحكومة لديها برنامج لزيادة نقل الفوسفات عبر القطارات مع خطط لشراء عربات و تهيئة السكك الحديدية بشكل أفضل لخفض التكلفة

و يقدر مسؤولون سعر نقل الطن الواحد من الفوسفات عبر الشاحنات بحوالي عشرة دولارات مقابل ثلاثة دولارات فقط عبر القطارات

و تزيد الحوكمة السيئة و نقص الشفافية في القطاع إحباط شبان المنطقة الذين يقولون إنهم لم يجنوا من الفوسفات سوى الأمراض

يقول معز، أحد سكان المتلوي، لفريق رويترز قبل مغادرة البلدة: انظروا حال المتلوي.. هذه البلدة التي توفر ثروة بمليارات الدولارات للبلاد لا تجن سوى الأوساخ و الأمراض لأهاليها و لا يستفيد منها إلا الفاسدين

فقط تعودنا على سماع أن تونس تخسر المليارات عندما يتوقف الإنتاج أياما، و لكن لا نرى مليارا واحدا عندما يستمر الإنتاج سنوات دون انقطاع

المصدر: رويترز