الاستقالة التي أعلنها عدد كبير من السياسيين المنتمين لحزب حراك تونس الإرادة، حزب الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي، الأربعاء، مثلت حدثا سياسيا قدم دروسا بليغة، بصرف النظر عن النكاية السياسية التي طغت على أغلب القراءات التي تناولت الحدث.

الاستقالة تمثل موقفا سياسيا رصينا إن توفرت شروط إعلانها مثلما بدا في البيان الذي وقعه 82 ناشطا في الحراك. لم تكن الطبقة السياسية في تونس في حاجة إلى بيان الاستقالة، وإلى ما احتواه من تبريرات لكي تتبين أن المرزوقي أوْلَى اصطفافاته الإقليمية اهتماما أكبر من الالتفات إلى أوضاع البلاد. ولم يكن النظر خارجا وليد مرحلة ما بعد الترويكا، أو ناتجا عن “نقمة” المرزوقي من الخروج من السلطة، بل كانت الانشغالات الإقليمية طاغية على المرزوقي رئيسا ورئيسا سابقا.

أسئلة كثيرة طرحت على تخوم بيان الاستقالة وهوامشه؛ وهي أسئلة لا تسحب من الاستقالة مشروعيتها أو حق أصحابها في إعلانها متى عنّ لهم ذلك أو توفرت الشروط الموضوعية لإعلانها، بل تذهب نحو بحث التوقيت والدواعي السياسية والمآلات الممكنة على المرزوقي وعلى صحبه القدامى، كما على المصرّين، وهم قلة، على البقاء في مداره.

في بيان الاستقالة دواع داخلية محضة، وأخرى خارجية تذهب بالموقف إلى ميادينه الخارجية، وهي ميادين لطالما واظب المرزوقي على ارتيادها ممنيا النفس بجني خراجها داخليا. وعلى ذلك تبرمت الاستقالة من “استحالة إصلاح مسار الحزب سياسيا وتنظيميا”، والحزب هنا هو الحراك سليل المؤتمر من أجل الجمهورية. وفي إنتاج الحراك حكاية يعرفها التونسيون متصلة بفشل المرزوقي في إعادة إنتاج نفسه رئيسا في انتخابات عام 2014.

فالحزب الذي وُلد في لحظة غضبية، بناء على خطاب ألقاه المرزوقي من شرفة مقر حملته الانتخابية في 23 ديسمبر 2014، غداة إعلان النتائج وتبرير الهزيمة، كرس واقع التهجين الذي طبع الحزب وميّزه عن المؤتمر الذي وُلد في سياق ما قبل الثورة، فكان “حراكا” يتغذى من مشارب فكرية مختلفة؛ إسلامية وعروبية وحقوقية ومستقلين وغاضبين مما اعتبروه “انحرافا عرفه مسار الثورة وتمثل في تحالف اليسار مع النظام القديم لإبعاد المرزوقي..”. وهكذا كان العقل السياسي للحراك عقلا يسوده التبرم من “مؤامرة” حيكت ضد الثورة وضد المرزوقي.

في بيان الاستقالة إشارات خجولة إلى غياب التقييم لتجربة الترويكا وما صاحبها من ارتجال وهرولة نحو الحكم دون مراعاة لمدى جاهزية الحزب لذلك من عدمها، فكانت الاستفاقة متأخرة على “عجز قيادة الحزب، تماشيا مع توجهها الانتخابي الواضح، عن قبول مسار النقد الذاتي للتجربة، وقبول تحولها إلى نسخة رديئة من تجربة سابقة”.

القراءات السياسية التونسية ركزت على نقطة الاصطفافات الإقليمية التي وردت في البيان كونها ناتجة عن “تموقع سياسي داخلي أدى إلى اصطفافات إقليمية قائمة على الانحياز لأنظمة وزعامات بعينها بشكل آلي وليس على أساس المصالح التونسية العليا”، ولئن لم يعلن البيان صراحة جغرافية تلك الاصطفافات إلا أن الأمر كان واضحا لعموم المتابعين.