كانت سياسة البايات الحسينيين قبل {حمودة باشا} قليلاً ما تهتم بشؤون البلاد الطرابلسية و ذلك لأنها بلاد فقيرة جداً، ضعيفة، مقسمة و مضطربة، لا تشكل بالنسبة لتونس أي مطمع أو إنشغال حقيقي، و قد كان سكانها يجدون في البلاد التونسية ملجآ آمناً لهم يقيهم الجوع، و يوفر لهم الأمن أوقات الفتن. و عندما تولى {حمودة باشا} الحكم سنة 1782 كان الوضع في طرابلس يزداد سوءاً بسبب الحروب المشتعلة بين أفراد عائلة القرمانلي.
و تفاقمت هذه الفتن إلى درجة جعلت {مصطفى خوجة} ينصح {حموده باشا} بإرسال جنده لإطفائها قبل تطاير شررها إلى أطراف المملكة التونسية، غير أن الباي لم يعمل بتلك النصيحة لأن همّه آنذاك هو الخطر الجزائري، مع أن الفتن في طرابلس لم تخلو من التدخل الجزائري.. و في يوم 26 جويلية 1794، لما كان أفراد عائلة القرمانلي في عراك مستميت على عرش طرابلس، ظهر فجأة أمام ميناء العاصمة أسطول صغير مُسلح يحمل العلم العثماني، و ما إن ألقى الأسطول مراسيه حتى نزل منه “قابوجي باشي” و معه حوالي 400 رجل مُسلح، و تلى فرماناً سلطانياً، أعلن فيه خلع {علي القرمانلي} و تولية {علي برغل}، و دعا القرمانلي للخضوع لأمر السلطان و هدده بقرب وصول “قابودان باشي” على رأس أسطول كبير.
و لمّا إستولى الرعب على قلوب جميع من كانوا حول القرمانلي إضطرّ للهرب و إلتجأ مع أبنائه و عديد من أنصاره إلى تونس، حيث قبلهم {حمودة باشا} و أسكنهم أحد قصوره و أجرى عليهم جرايات ملكيّة. و كان {علي برغل} الذي إستولى على حكم طرابلس في الأصل إنكشارياً أقام في الجزائر مدة طويلة حيث عمل قرصانا تحت إمرة دايات الجزائر ثم شغل منصب رئيس البحرية، قبل أن ينتقل إلى إسطنبول، و هو ما يزيد من قلق باي تونس، إذ أن أطماع دايات الجزائر في تونس معروف و خطر عليها قائم منذ زمن، فبهذا صارت المملكة التونسية مُحاطة بحكومتين مواليتين لاسلطنة العثمانية (طرابلس – الجزائر) و تُهددان إستقلال البلاد و سيادتها. ما جعل الأمور تنذر بالخطر أكثر، تصريح {علي برغل} بحقده الشديد على {حمودة باشا} من أجل إستضافته لـ.آل القرمانلي ، كما صرّح علناً أنه يزيد أن ينتزع من باي تونس، صفاقس و سوسة و المنستير و الحمامات فضلاً عن جربة، نظراً للفقر الذي وجد عليه ولايته الجديدة طرابلس.
و شرع في سلوك سياسة معادية لتونس، حيث قام بأسر إحدى سفن القرصنة التونسية المُسلحة بـ28 مدفعاً و عليها طاقم من 200 رجل بعد أن إضطرتها العواصف إلى الإلتجاء لميناء طرابلس، و كذلك دعوته لجند الإنكشارية بتونس لترك البلاد و الإلتحاق به للعمل تحت راية الدولة العثمانية، و قد إستجاب له العديد من الجند، خاصة بعد السياسة التي إنتهجها {حمودة باشا} للحد من نفوذهم و كسر شوكتهم تمهيداً لتعويضهم بجند من أبناء البلد. و لم يكتفي بذلك، فشرع في خطته التوسعية على الأراضي التونسية، فإستولى جنوده المرتزقة بمعيّة {قارة محمد} على جزيرة جربة يوم 24 سبتمبر 1794، و كان هذا الأخير أيضا قد خدم مدة بالجزائر.
حمودة باشا الحسيني: حكم تونس من 26 ماي 1782 إلى 15 سبتمبر 1814 عندئذ تحقق {حمودة باشا} من الخطر الماحق الذي يهدده من وجود تونس بين سلطتين تركيتين تُكنان له الحقد و العداء، و بعد أن كانت سياسته حيال {علي برغل} سلبيّة مثل عدم إعترافه بولايته و إمتناعه عن التعامل معه، تحول بعد إحتلال جربة إلى إتخاذ سياسة إيجابية هجومية . فقرر الهجوم براً و بحراً لإسترجاع جزيرة جربة و لغزو طرابلس ذاتها و طرد واليها العثماني الجديد. و في يوم 2 نوفمبر 1794 بينما كان الأسطول البحري التونسي يقلع تجاه جربة، تحركت أيضا حملة بريّة إلى طرابلس قوامها 20 ألف رجل بقيادة {مصطفى خوجة} و معها عائلة القرمانلي.
و بعد إسترداد جربة إثر إحتلال لم يدم اكثر من 58 يوماً، إخترقت القوات التونسية الحدود و تقدمت في الأراضي الطرابلسية و عسكرت على طول طريق رؤساء القبائل الموالية لأسرة القرمانلي المعزولة، و وصل الجيش الذي إزداد عدده حتى بلغ 30 ألف إلى طرابلس في 12 جانفي 1795، و إحتل مناطق أحواز العاصمة من الجهات الثلاث و حاصروها. و في صبيحة 18 جانفي حاول {علي برغل} فك الحصار لكنه فشل .. فزحف الجيش التونسي و بدأ بقصف المدينة بالمدفعية، و عندما رأى {علي برغل} إستحالة إستمراره بالمقاومة، صار يفكر في الهروب، و هو ما تمّ ليلة 18 و 19 جانفي 1795 بعد أن ملأ سفينتين بما سلبه من قلعة طرابلس و بعد أن ذبح جميع الرهائن و الأسرى، أبحر هارباً نحو مصر. و عندما رجع الجيش المنتصر إلى تونس، بعد أن أتم المهمة الموكلة إليه بكل نجاح و أرجع القرمانليين إلى عرشهم، ذهب الباي بنفسه لإستقبال قائد الحملة {مصطفى خوجه} تكريماً له و فتح خزائنه للعطايا، و أقيمت الأفراح و الإحتفالات، حيث تصدق الباي بالأموال الوافرة على الفقراء و المحتاجين إبتهاجاً بيوم إنتصاره الذي سجل خطوات إيجابية إلى الأمام في حفظ و تأكيد سيادة بلاده بالنسبة لثلاث قوى مُتسلطة، {علي برغل} و إسطنبول و الجزائر في وقت واحد. هذا و لم تعد السيطرة العثمانية المُباشرة على طرابلس إلاّ سنة 1835.